فصل: المسألة السَّادِسَةُ: مسألة كفر الملائكة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}.
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: قصة السحر على عهد سليمان عليه السلام:

ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا: الْجَرَادَةُ، تَكْرُمُ عَلَيْهِ وَيَهْوَاهَا، فَاخْتَصَمَ أَهْلُهَا مَعَ قَوْمٍ فَكَانَ صَغْوُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِأَهْلِ الْجَرَادَةِ، فَعُوقِبَ، وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ أَوْ يَخْلُو بِإِحْدَى نِسَائِهِ أَعْطَاهَا خَاتَمَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ يَوْمًا فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى صُورَتَهُ عَلَى شَيْطَانٍ، فَجَاءَهَا فَأَخَذَ الْخَاتَمَ فَلَبِسَهُ، وَدَانَتْ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ لَهُ، وَجَاءَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ يَطْلُبُهُ، فَقَالَتْ: أَلَمْ تَأْخُذْهُ؟ فَعَلِمَ أَنَّهُ اُبْتُلِيَ، وَعَلِمَتْ الشَّيَاطِينُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ لَهَا؛ فَاغْتَنَمَتْ الْفُرْصَةَ فَوَضَعَتْ أَوْضَاعًا مِنْ السِّحْرِ وَالْكُفْرِ وَفُنُونًا مِنْ النَّيْرَجَاتِ وَسَطَّرُوهَا فِي مَهَارِقَ، وَقَالُوا: هَذَا مَا كَتَبَ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا كَاتِبُ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ، فَدَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ: وَعَادَ سُلَيْمَانُ إلَى حَالِهِ، وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَقَالَتْ الشَّيَاطِينُ لِلنَّاسِ: إنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَمْلِكُكُمْ بِأُمُورٍ أَكْثَرُهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فِيهَا عُلُومٌ غَرِيبَةٌ؛ فَدُونَكُمْ فَاحْتَفِرُوا عَلَيْهَا، فَفَعَلُوا وَاسْتَثَارُوهَا، فَنَفَذَ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ فَصَارَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَتَنَاقَلَتْهُ الْكَفَرَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ عَنْهُمْ حَتَّى وَصَلَ ذَلِكَ إلَى يَهُودِ الْحِجَازِ، فَكَانُوا يَعْمَلُونَهُ وَيُعَلِّمُونَهُ وَيُصَرِّفُونَهُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ؛ وَكَانُوا بَيْنَ جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ وَأُمَّةٍ عَمْيَاءَ؛ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، وَنَوَّرَ الْقُلُوبَ، وَكَشَفَ قِنَاعَ الْأَلْبَابِ، لَجَأَتْ الْيَهُودُ إلَى أَنْ تُعَلِّقَ مَا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ ذَلِكَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَزْعُمُ أَنَّهُ مِمَّا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ حَمَلَ قَوْمًا قَبْلَ الْبَعْثِ عَلَى أَنْ يَتَبَرَّءُوا مِنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: ما ذكر عن بني إسرائيل في المسألة:

هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا مِمَّا فِيهِ الْحَرَجُ فِي ذِكْرِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ لَنَا أَنْ نَتَحَدَّثَ عَنْهُمْ فِي حَدِيثٍ يَعُودُ إلَيْهِمْ، وَمَا كُنَّا لِنَذْكُرَ هَذَا لَوْلَا أَنَّ الدَّوَاوِينَ قَدْ شُحِنَتْ بِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ صَغُوهُ صِحَّةَ الْحُكْمِ لِقَوْمِ الْجَرَادَةِ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ إجْمَاعًا فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ بِاتِّفَاقٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ بِأَنَّ شَيْطَانًا تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ، فَأَخَذَ الْخَاتَمَ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَتَصَوَّرُ عَلَى صُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي كِتَابِ النَّبِيِّ.
وَأَمَّا دَفْنُهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُمْكِنُ أَلَّا يَعْلَمَ بِذَلِكَ وَتَبْقَى حَتَّى يُفْتَتَنَ بِهَا الْخَلْقُ بَعْدَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذَهَا وَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سِحْرًا، أَمَّا لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا سِحْرٌ فَحَقُّهَا أَنْ تُحْرَقَ أَوْ تُغْرَقَ، وَلَا تَبْقَى عُرْضَةً لِلنَّقْلِ وَالْعَمَلِ.

.المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا}:

قِيلَ: يَهُودُ زَمَانِ سُلَيْمَانَ، وَقِيلَ يَهُودُ زَمَانِنَا، وَاللَّفْظُ فِيهِمْ عَامٌّ، وَلِجَمِيعِهِمْ مُحْتَمِلٌ، وَقَدْ كَانَ الْكُلُّ مِنْهُمْ مُتَّبِعًا لِهَذَا الْبَاطِلِ.

.المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ}:

اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَرْفِ {مَا}: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ نَفْيٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مَفْعُولٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ نَفْيٌ، لَا فِي نِظَامِ الْكَلَامِ، وَلَا فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى، وَلَا يَتَعَلَّقُ مِنْ كَوْنِهِ مَفْعُولًا سِيَاقُ الْكَلَامِ بِمُحَالٍ عَقْلًا، وَلَا يَمْتَنِعُ شَرْعًا.
وَتَقْرِيرُهُ: وَاتَّبَعَ الْيَهُودُ مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ السِّحْرِ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، أَيْ نَسَبَتْهُ إلَيْهِ وَأَخْبَرَتْ بِهِ عَنْهُ، كَقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلَنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أَيْ إذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ مَا لَمْ يُلْقِهِ النَّبِيُّ، يُحَاكِيهِ وَيُلَبِّسُ عَلَى السَّامِعِينَ بِهِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ.
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ قَطُّ وَلَا سَحَرَ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا بِسِحْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَهُ النَّاسَ؛ وَمُعْتَقِدُ الْكُفْرِ كَافِرٌ، وَقَائِلُهُ كَافِرٌ، وَمُعَلِّمُهُ كَافِرٌ، وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَمَا كَانَ الْمَلَكَانِ يُعَلِّمَانِ أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا: {إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}.
فَإِنْ قِيلَ: وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: كَيْفَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَاطِلَ وَالْكُفْرَ؟ قُلْنَا: كُلُّ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَوْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ أَوْ إيمَانٍ أَوْ كُفْرٍ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ: «مَاذَا فُتِحَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْخَزَائِنِ؟ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْفِتَنِ؟ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ نُزُولِ الْفِتَنِ عَلَى الْخَلْقِ.

.المسألة السَّادِسَةُ: مسألة كفر الملائكة:

فَإِنْ قِيلَ: وَكَيْفَ نَزَّلَ الْكُفْرَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَيُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَأَنَّى يَصِحُّ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكُفْرِ وَيُعَلِّمُوهُ؟ قُلْنَا: هَذَا الَّذِي أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِهِمْ حَتَّى رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ الْمَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بِبَابِلَ عِلْجَانِ، وَقَدْ بَلَغَ التَّغَافُلُ أَوْ الْغَفْلَةُ بِبَعْضِهِمْ حَتَّى قَالَ: إنَّمَا هُمَا دَاوُد وَسُلَيْمَانُ، وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} أَيْ فِي أَيَّامِهِمَا.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ.
وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ: أَطَلَعَتْ الْحَمْرَاءُ؟ قُلْت: طَلَعَتْ، قَالَ: لَا مَرْحَبًا بِهَا وَلَا أَهْلًا، وَأَرَاهُ لَعَنَهَا، قُلْت: سُبْحَانَ اللَّهِ، نَجْمٌ مُسَخَّرٌ مُطِيعٌ تَلْعَنُهُ؟ قَالَ: مَا قُلْت لَك إلَّا مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ الْمَلَائِكَةَ عَجَّتْ مِنْ مَعَاصِي بَنِي آدَمَ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، كَيْفَ صَبْرُك عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ؟ فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مَكَانَهُمْ، وَيَحُلُّ الشَّيْطَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ مَحَلَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ لَعَمِلُوا بِعَمَلِهِمْ، وَقَدْ أَعْطَيْت بَنِي آدَمَ عَشْرًا مِنْ الشَّهَوَاتِ فَبِهَا يَعْصُونَنِي قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا لَوْ أَعْطَيْتَنَا تِلْكَ الشَّهَوَاتِ، وَابْتَلَيْتَنَا، لَحَكَمْنَا بِالْعَدْلِ، وَمَا عَصَيْنَاك فَأَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْتَارُوا مِنْهُمْ مَلَكَيْنِ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، فَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ وَقَالَا: نَحْنُ نَنْزِلُ؛ وَأَعْطِنَا الشَّهَوَاتِ، وَكَلِّفْنَا الْحُكْمَ بِالْعَدْلِ فَنَزَلَا بِبَابِلَ، فَكَانَا يَحْكُمَانِ حَتَّى إذَا أَمْسَيَا عَرَجَا إلَى مَكَانِهِمَا، فَفُتِنَا بِامْرَأَةٍ حَاكَمَتْ زَوْجَهَا اسْمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ الزَّهْرَةُ وَبِالنَّبَطِيَّةِ بيرخت وَبِالْفَارِسِيَّةِ أقاهيد فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إنَّهَا لَتُعْجِبُنِي قَالَ لَهُ الْآخَرُ: لَقَدْ أَرَدْت أَنْ أَقُولَ لَك ذَلِكَ، فَهَلْ لَك فِي أَنْ تَعْرِضَ لَهَا؟ قَالَ لَهُ الْآخَرُ: كَيْفَ بِعَذَابِ اللَّهِ قَالَ: إنَّا لَنَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ فَطَلَبَاهَا فِي نَفْسِهَا قَالَتْ: لَا حَتَّى تَقْضِيَا لِي عَلَى زَوْجِي؛ فَقَضَيَا لَهَا وَقَصَدَاهَا وَأَرَادَا مُوَاقَعَتَهَا، فَقَالَتْ لَهُمَا: لَا أُجِيبُكُمَا لِذَلِكَ حَتَّى تُعَلِّمَانِي كَلَامًا أَصْعَدُ بِهِ إلَى السَّمَاءِ، وَأَنْزِلُ بِهِ مِنْهَا؛ فَأَخْبَرَاهَا، فَتَكَلَّمَتْ فَصَعِدَتْ إلَى السَّمَاءِ فَمَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَوْكَبًا، فَلَمَّا أَرَادَا أَنْ يَصْعَدَا، لَمْ يُطِيقَا فَأَيْقَنَا بِالْهَلَكَةِ؛ فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَعُلِّقَا بِبَابِلَ فَجَعَلَا يُكَلِّمَانِ النَّاسَ كَلَامَهُمَا، وَهُوَ السِّحْرُ وَيُقَالُ: كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ قَبْلَ ذَلِكَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، فَلَمَّا وَقَعَا فِي الْخَطِيئَةِ اسْتَغْفَرُوا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ».
قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا سُقْنَا هَذَا الْخَبَرَ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ رَوَوْهُ وَدَوَّنُوهُ فَخَشِينَا أَنْ يَقَعَ لِمَنْ يَضِلُّ بِهِ.
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ، وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ كُلُّهُ فِي الْعَقْلِ لَوْ صَحَّ فِي النَّقْلِ، وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ تَقَعَ الْمَعْصِيَةُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَيُوجَدَ مِنْهُمْ خِلَافُ مَا كُلِّفُوهُ، وَتُخْلَقَ فِيهِمْ الشَّهَوَاتُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنْكِرُهُ إلَّا رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا: جَاهِلٌ لَا يَدْرِي الْجَائِزَ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ، وَالثَّانِي: مَنْ شَمَّ وَرْدَ الْفَلَاسِفَةِ، فَرَآهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَلَائِكَةَ رُوحَانِيُّونَ، وَإِنَّهُمْ لَا تَرْكِيبَ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا هُمْ بَسَائِطُ، وَشَهَوَاتُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْمُرَكَّبَاتِ مِنْ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ فِي الْقَوْلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَكَيْفِيَّتِهِمْ بِمَا لَمْ يُعَايِنُوهُ، وَلَا نُقِلَ إلَيْهِمْ، وَلَا دَلَّ دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَحَالُوا عَلَى الْبَسِيطِ أَنْ يَتَرَكَّبَ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا جَائِزٌ؛ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ أَنْ يَأْكُلَ الْبَسِيطُ وَيَشْرَبُ وَيَطَأُ، وَلَا يُوجَدُ مِنْ الْمُرَكَّبِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَهَذَا الَّذِي اطَّرَدَ فِي الْبَسِيطِ مِنْ عَدَمِ الْغِذَاءِ، وَفِي الْمُرَكَّبِ مِنْ وُجُودِ الْغِذَاءِ عَادَةً إلَّا أَنَّهُ غَايَةُ الْقُدْرَةِ، وَقَدْ مَكَّنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَمَهَّدْنَاهُ فِي الْأُصُولِ، وَخَبَرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، صِدْقٌ لَا خِلَافَ فِيهِ، لَكِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ حَالِهِمْ، وَهِيَ مَا يَجُوزُ أَنْ تَتَغَيَّرَ فَيَكُونُ الْخَبَرُ عَنْهَا بِذَلِكَ أَيْضًا، وَكُلُّ حَقٍّ صِدْقٌ لَا خِلَافَ فِيهِ.
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّهُ خَبَرٌ عَامٌّ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ التَّخْصِيصُ، وَهَذَا صَحِيحٌ أَيْضًا.
وَقَدْ رَوَى سُنَيْدٌ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ دُخِلَ إلَيْهِمَا فِي مَغَارِهِمَا وَكُلِّمَا، وَتُعُلِّمَ مِنْهُمَا فِي زَمَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ التَّعَلُّمُ مِنْهُمَا إلَّا سَمَاعَ كَلَامِهِمَا، وَهُمَا إذَا تَكَلَّمَا إنَّمَا يَقُولَانِ: إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ أَيْ لَا تَجْعَلْ مَا تَسْمَعُ مِنَّا سَبَبًا لِلْكُفْرِ، كَمَا جَعَلَ السَّامِرِيُّ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ سَبَبًا لِاِتِّخَاذِ الْعِجْلِ إلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَفِي هَذَا مِنْ الْعِبْرَةِ: الْخَشْيَةُ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَالْخَاتِمَةِ، وَعَدَمُ الثِّقَةِ بِظَاهِرِ الْحَالَةِ، وَالْخَوْفُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا بَلْعَامُ فِي الْآدَمِيِّينَ كَهَارُوتَ وَمَارُوتَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَأَنْزِلُوا كُلَّ فَنٍّ فِي مَرْتَبَتِهِ، وَتَحَقَّقُوا مِقْدَارَهُ فِي دَرَجَتِهِ حَسْبَمَا رَوَيْنَاهُ، وَلَا تَذْهَلُوا عَنْ بَعْضٍ فَتَجْهَلُوا جَمِيعَهُ.

.المسألة السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}:

وَقَدْ أَوْرَدْنَا فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ الْقَوْلَ فِي السِّحْرِ وَحَقِيقَتِهِ وَمُنْتَهَى الْعَمَلِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَشْفِي الْغَلِيلَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أَقْسَامِهِ فِعْلَ مَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَمِنْهُ مَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَيُسَمَّى التُّوَلَةُ، وَكِلَاهُمَا كُفْرٌ، وَالْكُلُّ حَرَامٌ، كُفْرٌ قَالَهُ مَالِكٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السِّحْرُ مَعْصِيَةٌ إنْ قَتَلَ بِهَا السَّاحِرُ قُتِلَ، وَإِنْ أَضَرَّ بِهَا أُدِّبَ عَلَى قَدْرِ الضَّرَرِ.
وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ السِّحْرَ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ كَلَامٌ مُؤَلَّفٌ يُعَظَّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَتُنْسَبُ إلَيْهِ فِيهِ الْمَقَادِيرُ وَالْكَائِنَاتُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ كُفْرٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} مِنْ السِّحْرِ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ بِقَوْلِ السِّحْرِ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا بِهِ وَبِتَعْلِيمِهِ، وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ يَقُولَانِ: إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ.

.المسألة الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}:

يَعْنِي: بِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ لَا بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَيَقْضِي عَلَى الْخَلْقِ بِهَا، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.

.المسألة التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}:

هُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ نَفْعٌ لِمَا يَتَعَجَّلُونَ بِهِ مِنْ بُلُوغِ الْغَرَضِ، وَحَقِيقَتُهُ مُضِرَّةٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ؛ وَحَقِيقَةُ الضَّرَرِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلُّ أَلَمٍ لَا نَفْعَ يُوَازِيهِ، وَحَقِيقَةُ النَّفْعِ كُلُّ لَذَّةٍ لَا يَتَعَقَّبُهَا عِقَابٌ، وَلَا تَلْحَقُ فِيهِ نَدَامَةٌ.
وَالضَّرَرُ وَعَدَمُ الْمَنْفَعَةِ فِي السِّحْرِ مُتَحَقِّقٌ. اهـ.

.قال في الميزان:

وهذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين الذين نص القرآن على نزاهة ساحتهم وطهارة وجودهم عن الشرك والمعصية أغلظ الشرك وأقبح المعصية، وهو: عبادة الصنم والقتل والزنا وشرب الخمر وتنسب إلى كوكبة الزهرة أنها امرأة زانية مسخت- وإنها اضحوكة- وهي كوكبة سماوية طاهرة في طليعتها وصنعها أقسم الله تعالى عليها في قوله: {الجوار الكنس} التكوير- 16، على أن علم الفلك أظهر اليوم هويتها وكشف عن عنصرها وكميتها وكيفيتها وسائر شئونها.
فهذه القصة كالتي قبلها المذكورة في الرواية السابقة تطابق ما عند اليهود على ما قيل: من قصة هاروت وماروت، تلك القصة الخرافية التي تشبه خرافات يونان في الكواكب والنجوم.
ومن هاهنا يظهر للباحث المتأمل: أن هذه الاحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الأنبياء وعثراتهم لا تخلو من دس دسته اليهود فيها وتكشف عن تسربهم الدقيق ونفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدر الأول فقد لعبوا في رواياتهم بكل ما شاؤا من الدس والخلط وأعانهم على ذلك قوم آخرون.
لكن الله عز اسمه جعل كتابه في محفظة إلهية من هوسات المتهوسين من أعدائه كلما استرق السمع شيطان من شياطينهم إتبعه بشهاب مبين، فقال عز من قائل: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} الحجر- 9، وقال: {إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه تنزيل من حكيم حميد} فصلت- 42، وقال: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} أسرى- 82، فأطلق القول ولم يقيد، فما من خلط أو دس إلا ويدفعه القرآن ويظهر خسار صاحبه بالكشف عن حاله وإقراء صفحة تاريخة، وقال رسول الله فيما رواه الفريقان: ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فاتركوه.
فأعطى ميزانا كليا يوزن به المعارف المنقولة منه ومن أوليائه، وبالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحق ثم لا يلبث أن يظهر بطلانه ويمات عن القلوب الحية كما اميت عن الأعيان.
قال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه} الأنبياء- 18، وقال تعالى: {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته} الانفال- 7، وقال تعالى: {ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} الانفال- 8 ولا معنى لاحقاق الحق ولا لابطال الباطل إلا إظهار صفتهما.
وبعض الناس وخاصة من أهل عصرنا من المتوغلين في الأبحاث المادية والمرعوبين من المدنية الغربية الحديثة استفادوا من هذه الحقيقة المذكورة سوء وأخذوا بطرح جميع ما تضمنته سنة رسول الله واشتملت عليه جوامع الروايات فسلكوا في ذلك مسلك التفريط، قبال ما سلكه بعض الاخباريين وأصحاب الحديث والحرورية وغيرهم مسلك الإفراط والأخذ بكل رواية منقولة كيف كانت.
وكما أن القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتميز الحق من الباطل ونسبة الباطل واللغو من القول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذلك الطرح الكلي تكذيب لها وإلغاء وإبطال للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو القائل جل ثنائه: {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر- 7، وقوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} النساء- 64، إذ لو لم يكن لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجية أو لما ينقل من قوله صلى الله عليه وآله وسلم إلينا معاشر الغائبين في عصره أو الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجية لما استقر من الدين حجر على حجر، والركون على النقل والحديث مما يعنوره البشر ويقبله في حيوتة الاجتماعية قبولا يضطر إليه بالبداهة ويهديه إلى ذلك الفطرة الإنسانية لا غنى له عن ذلك، وأما وقوع الدس والخلط في المعارف المنقولة الدينية فليس ببدع يختص بالدين كيف ورحى الاجتماع بجميع جهاتها وأركانها تدور على الاخبار الدائرة اليومية العامة والخاصة، ووجوده الكذب والدس والخلط فيها أزيد وأيدي السياسات الكلية والجزئية بها ألعب؟ ونحن على فطرتنا الإنسانية لا نجري على مجرد قرع السمع في الأخبار المنقولة إلينا في نادي الاجتماع بل نعرض كل واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الذي يمكن أن يوزن به فإن وافقه وصدقه قبلناه وإن خالفه وكذبه طرحناه وإن لم يتبين شيء من أمره ولم يتميز حقه من باطله وصدقه من كذبه توقفنا فيه من غير قبول ولا رد على الاحتياط الذي جبلنا عليه في الشرور والمضار.
هذا كله بشرط الخبرة في نوع الخبر الذي نقل إلينا، وأما ما لا خبرة للإنسان فيه من الأخبار بما يشتمل عليه من المضمون فسبيل العقلاء من أهل الاجتماع فيه الرجوع إلى أهل خبرته والأخذ بما يرون فيه ويحكمون به هذا.
فهذا ما عليه بناؤنا الفطري في الاجتماع الإنساني، والميزان الديني المضروب لتمييز الحق من الباطل وكذا الصدق من الكذب، لا يغاير ذلك بل هو هو بعينه، وهو العرض على كتاب الله فإن تبين منه شيء أخذ به وإن لم يتبين لشبهة فالوقوف عند الشبهة، وعلى ذلك أخبار متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة من أهل بيته.
هذا كله في غير المسائل الفقهية وأما هي فالمرجع في البحث عنها فن أصول الفقه. اهـ.